قال البخاري في «صحيحه» :
باب رفع الصوت في المساجد
470 - حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا
الجعيد بن عبد الرحمن، قال: حدثني يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد، قال: كنت
قائما في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين،
فجئته بهما، قال: من أنتما - أو من أين أنتما؟ - قالا: من أهل الطائف، قال: «لو
كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم».
قال ابن رجب في الفتح (3/397) :
قد روي هذا عن عمر من وجه آخر:
خرجه الإسماعيلي في «مسند عمر» من طريق عبدة، عن عبيد الله بن عمر،
عن نافع، أن رجلًا من ثقيف أخبره، أن عمر بن الخطاب سمع ضحك رجل في المسجد، فأرسل
إليه، فدعاه، فقال: ممن أنت؟ فقال: أنا رجل من أهل الطائف، فقال: أما إنك لو كنت
من أهل البلد لنكلت بك، أن مسجدنا هذا لا يرفع فيه صوت.
وقد روي في حديث واثلة المرفوع: ((جنبوا مساجدكم خصوماتكم ورفع
أصواتكم)) .
خرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف جدا.
وروي عن ابن مسعود، أنه كان يكره أن ترفع الأصوات في المسجد. وقد
سبق.
ورفع الأصوات في المسجد على وجهين:
أحدهما: أن يكون بذكر الله وقراءة القرآن والمواعظ وتعليم العلم
وتعليمه، فما كان من ذلك لحاجة عموم أهل المسجد إليه، مثل الأذان والإقامة وقراءة
الإمام في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فهذا كله حسن مأمور به.
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب علا صوته
واشتد غضبه كأنه منذر جيش، يقول: ((صبحكم ومساكم)) ، وكان إذا قرأ في الصلاة
بالناس تسمع قراءته خارج المسجد، وكان بلال يؤذن بين يديه ويقيم في يوم الجمعة في
المسجد.
وقد كره بعض علماء المالكية في مسجد المدينة خاصة لمن بعد النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يزيد في رفع صوته في الخطب والمواعظ على
حاجة إسماع الحاضرين، تأدبًا مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنه
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حاضر يسمع ذلك، فيلزم التأدب معه، كما لو كان
حيًا.
وما لا حاجة إلى الجهر فيه، فإن كان فيه أذى لغيره ممن يشتغل
بالطاعات كمن يصلي لنفسه ويجهر بقراءته، حتى يغلط من يقرأ إلى جانبه أن يصلي، فإنه
منهي عنه.
وقد خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة على أصحابه
وهم يصلون في المسجد ويجهرون بالقراءة، فقال: ((كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم
على بعض بالقرآن.
وفي رواية: ((فلا يؤذ بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في
القراءة. خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي سعيد.
وكذلك رفع الصوت بالعلم زائدًا على الحاجة مكروه عند أكثر العلماء،
وقد سبق ذكره مستوفى في أوائل ((كتاب: العلم))
في باب رفع الصوت بالعلم.
الوجه الثاني: رفع الصوت بالاختصام ونحوه من أمور الدنيا، فهذا هو
الذي نهى عنه عمر وغيره من الصحابة.
ويشبه: إنشاد الضالة في المسجد، وفي صحيح مسلم، عن النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كراهته والزجر عنه، من رواية أبي هريرة وبريدة.
وأشد منه كراهة: رفع الصوت بالخصام بالباطل في أمور الدين؛ فإن الله
ذم الجدال في الله بغير علم، والجدال بالباطل، فإذا وقع ذلك في المسجد ورفعت
الأصوات به تضاعف قبحه وتحريمه.
وقد كره مالك رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره. ورخص .... ومحمد بن
مسلمة من أصحاب مالك في رفع الصوت في المسجد بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج
إليه الناس؛ لأنه مجمعهم ولا بد لهم منه. وهذا مبني على جواز القضاء في المساجد.
وقد سبق ذكره.