[في سماع أبي وائل من علي رضي الله عنه]
قد نفى أبو حاتم الرازي سماع أبي وائل من علي رضي الله عنه:
قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (320) : سمعت أبي يقول: أبو وائل قد
أدرك عليًا، غير إن حبيب بن
أبي ثابت روى عن أبي وائل عن أبي الهياج عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم بعثه: «لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته».
وكما هو ظاهر في هذا النقل أن أبا حاتم يشير إلى نفي السماع، وقد بنى
حكمه في ذلك على هذا الإسناد والذي فيه أن أبا وائل يروي عن علي بواسطة أبي
الهياج.
وهذه جادة مطروقة عند الحفاظ النقاد، أنهم يدللون على نفي سماع بين
متعاصرَين بأن ترد الرواية عن رجل عن شيخه، وفي موضع يروي عنه بواسطة.
قال ابن رجب في «شرح العلل» (2/593) : فإن كان الثقة يروي عمن عاصره
أحياناً ولم يثبت لقيه له ثم يدخل أحياناً بينه وبينه واسطة فهذا يستدل به هؤلاء
الأئمة على عدم السماع منه.
وقال (2/595) : وكلام أحمد وأبي زرعة، وأبي حاتم، في هذا المعنى كثير
جداً، يطول الكتاب بذكره، وكله يدور على أن مجرد ثبوت الرواية لا يكفي في ثبوت
السماع، وأن السماع لا يثبت بدون التصريح به. وأن رواية من روى عمن عاصره تارة
بواسطة، وتارة بغير واسطة، يدل على أنه لم يسمع منه، إلا أن يثبت له السماع منه من
وجه.
قال عبد الله بن الإمام أحمد في «العلل» (5261) : وسئل (يعني أباه)
عما روى سعيد بن جبير عن عائشة على السماع؟ فقال: لا أراه سمع منها، عن الثقة عن
عائشة.
وقال (32) : سمعت أبي يقول: خيثمة لم يسمع من عبد الله بن مسعود شيئًا،
روى عن الأسود عن عبد الله.
وقال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (318) : كتب إلي علي بن أبي طاهر،
نا أحمد بن محمد الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله: أبو وائل سمع من عائشة؟ قال ما
أدري، ربما أدخل بينه وبينها مسروق في غير شيء، وذكر حديث: «إذا أنفقت المرأة».
وفي «جامع التحصيل» ص160: قال أحمد بن حنبل: لم يسمع (حجاج بن أرطأة)
من عكرمة شيئًا إنما يحدث عن داود بن الحصين عن عكرمة.
وقال ابن محرز في «تاريخه» ص128 : وسمعت يحيى (بن معين) وقيل له ثابت
سمع من أبى برزة؟ قال: لا، حدث عن معاوية بن قرة عن أبى برزة.
وقال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (399) : ذكره أبي عن إسحق بن منصور
قال: قلت ليحيى بن معين: عبد الله بن نجي سمع من علي؟ قال: لا، بينه وبين علي أبوه.
وقال ابن الجنيد في «سؤالاته» (180) : سئل يحيى بن معين وأنا أسمع:
سمع قتادة من سعيد بن جبير؟ فقال يحيى بن معين: لم يسمع من سعيد بن جبير، ولا من
مجاهد، ولا من سليمان شيئًا، ربما أدخل بينهم رجلاً، وربما أرسل، وأكثر ذلك لا
يدخل، يرسلها.
وقال البخاري كما في «ترتيب علل الترمذي» (345) : ما أرى يونس بن
عبيد سمع من نافع. وروى يونس بن عبيد, عن ابن نافع, عن أبيه حديثًا.
وقال في «التاريخ الكبير» (4/72) : لم يسمع الحسن من سلمة، بينهما
قبيصة بن حريث.
وقال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (397) : قال أبي أبو قلابة لم يسمع
من أبي زيد عمرو بن أخطب، بينهما عمرو بن بجدان.
وقال (481) : سمعت أبي يسأل عن ابن جريج سمع من أبي سفيان طلحة بن
نافع؟ قال: ما أراه، رأيت في موضع بينه وبين أبي سفيان؛ أبا خالد -شيخًا له-.
وقال (591) - سمعت أبي يقول: الشعبي عن عائشة مرسل، إنما يحدث عن
مسروق عن عائشة.
[هذه النصوص مستفادة من كتاب «الاتصال والانقطاع» للاحم ص80]
وهذا الحديث (حديث أبي وائل عن أبي الهياج عن علي) بهذا الإسناد رواه
مسلم في «صحيحه» (969)
لكن قد وقع فيه اختلاف كثير بسط طرقه الدارقطني في «العلل» (494) وذكر
وجوه الخلاف فيه.
وسأقتطع من جملة كلامِه كلامَه على أبرز الوجوه وأقواها كي لا يطول
البحث ويخرج عن مقصوده، وهما وجهان:
الأول: أبو وائل عن أبي الهياج عن علي.
الثاني: أبو وائل أن عليًا قال لأبي الهياج.
قال:
يرويه حبيب بن أبي ثابت، واختلف عنه؛
فرواه الثوري، عن حبيب، عن أبي وائل، عن أبي الهياج.
قال ذلك يحيى القطان، وخالد بن الحارث، ووكيع، وعبد الرحمن، وأبو
نعيم، وقبيصة، وغيرهم.
وقال أبو إسحاق الفزاري: عن الثوري، عن حبيب، عن أبي وائل، عن علي،
أنه قال لأبي هياج.
ثم رجح ما أورده أبو حاتم وأخرجه مسلم، قال:
والحديث حديث الثوري، ما رواه يحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي، ومن
تابعهما وهو الصحيح.
وخالفه في ترجيحه البخاري:
قال الترمذي كما في «ترتيب العلل الكبير» (258) فسألت محمدًا -يعني
البخاري- فقال: الصحيح: عن أبي وائل أن عليًا قال لأبي الهياج.
وقد ذكر الدارقطني أبا نعيم في من رواه عن الثوري على الوجه الأول مع
أنه هو نفسه خرجه في «العلل» (4/181) عنه من طريقين على الوجه الثاني.
ويضاف لهما طريق ثالث في «تاريخ» ابن أبي خيثمة-السفر الثالث (4424).
ورابع عند أبي علي الصواف في الثالث من «فوائده».
وكذلك ابن مهدي؛ فقد رواه عنه الإمام أحمد في «المسند» (1064) ومحمد
بن بشار كما عند الترمذي (1049) على الوجه الثاني.
وعبيد الله القواريري كما عند أبي يعلى (350) إلا أنه سقط عنده أبي
وائل. ولو سلم سند أبي يعلى من السقط؛ لرجح عليه ما رواه الإمام أحمد وبندار.
ويضاف إلى من رواه عن الثوري على الوجه الثاني: عبد الرزاق كما في «المصنف»
(6487). وأبو أحمد الزبيري وأبو إسحاق الفزاري وأبو حذيفة كما في «العلل» (4/181-182).
ويضاف إلى من رواه عن الثوري على الوجه الأول: محمد بن كثير العبدي
كما عند أبي داود (3218) وابن عدي (3/318). ومحمد بن يوسف الفريابي كما عند
البيهقي (6757) و «حديث الثوري» (218).
ورواية القطان عند مسلم (969) والنسائي في «الكبرى» (2169) و«المجتبى»
(2031). ورواية خالد بن الحارث في «العلل» (4/177).
وخلاصة الكلام أن من رواه عن الثوري على الوجه الأول:
يحيى القطان، وخالد بن الحارث، ووكيع، وقبيصة ومحمد بن كثير والفريابي.
وأبو نعيم وابن مهدي على قول الدارقطني.
.
ومن رواه على الوجه الثاني:
ابن مهدي وأبو نعيم والفزاري والزبيري وعبد الرزاق وأبو حذيفة.
فعلى ترجيح البخاري؛ فإنه وإن كان لا ينبني عليه الجزم بوقوع السماع
وصحته؛ لكنه قد يضعف قرينة نفي السماع بحجة وجود واسطة بينهما.
وعلى ترجيح الدارقطني فالأمر كما تقدم. ولعل ترجيحه هو الأقرب للصواب
والله أعلم. وقد يقال أنه قد تابعه مسلم عليه بإخراجه الحديث في «صحيحه» على الوجه
الذي رجحه، وأبو حاتم باعتماده ذات الوجه في نفي السماع، والغالب أن وجوه الاختلاف في الخبر لا تخفى على مثلهما.
ومن الغرائب أن الحاكم جزم بالسماع واستدرك الحديث على الشيخين! وسكت
عنه الذهبي! وعلل أن الشيخين اجتنباه للخلاف على الثوري فيه. «المستدرك» (1/524).
وقد يقال أن أبا وائل رأى عليًا رضي الله عنه، استنادًا على ما جاء
أنه شهد صفين معه رضي الله عنه:
قال البخاري في «صحيحه» :
3181 - حدثنا عبدان، أخبرنا أبو حمزة، قال: سمعت الأعمش، قال: سألت
أبا وائل؛ شهدت صفين؟ قال: نعم، فسمعت سهل بن حنيف، يقول: «اتهموا رأيكم .. »
الحديث.
وقال ابن سعد في «الطبقات» (6/155) قال: أخبرنا وكيع بن الجراح قال:
حدثنا الأعمش عن أبي وائل، قيل له: أشهدت صفين؟ قال: نعم وبئست الصفون كانت.
وروى ابن عساكر (23/175) : بسنده إلى محمود بن غيلان، قال: سمعت أبا
معاوية يقول عن الأعمش، قال: «شهد أبو وائل صفين مع علي كرم الله وجهه».
وقد روي أن أبا وائل كان علويًا يحب عليًا قبلُ، ثم صار عثمانيًا.
وقد روي أن أبا وائل شهد النهروان مع علي رضي الله:
قال البزار: 564 - حدثنا يوسف بن موسى، قال: نا إسحاق بن سليمان
الرازي، قال: سمعت أبا سنان، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: قلت لشقيق بن سلمة: حدثني
عن ذي الثدية، قال: لما قاتلناهم قال علي رضي الله عنه: اطلبوا رجلا علامته كذا
وكذا فطلبناه فلم نجده، فقلنا له لم نجده، فبكى، فقال: اطلبوه فوالله ما كذبت ولا
كذبت، قال: فطلبناه فلم نجده، فبكى، فقال: اطلبوا فوالله ما كذبت ولا كذبت،
فطلبناه فلم نجده، قال: فركب بغلته الشهباء فطلبناه، فوجدناه تحت بردي فلما رآه
سجد.
قال البزار: ولا نعلم روى حبيب بن أبي ثابت، عن شقيق، عن علي رضي
الله عنه إلا هذا الحديث.
قال الدارقطني كما في أطراف الغرائب (451) : غريب من حديث حبيب بن
أبي ثابت عن أبي وائل. تفرد به أبو سنان سعيد بن سنان عنه.
فهذا تضعيف منه للخبر.
وقال ابن أبي خيثمة في «التاريخ»-السفر الثالث:
4423- حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن شقيق بن
سلمة، قال: رأيت علي بن أبي طالب يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة
الله، السلام عليكم ورحمة الله.
وقال ابن أبي شيبة في «المصنف» :
3051 - حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، قال: صليت خلف
علي، فسلم عن يمينه وعن شماله، وقال: «السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم
ورحمة الله».
وهذا الخبر وقع فيه اختلاف وقد رواه جماعة من طريق أبي رزين عن علي
رضي الله عنه. انظر «العلل» للدارقطني (502).
وقال ابن ماجه:
413 - حدثنا محمود بن خالد الدمشقي قال: حدثنا الوليد بن مسلم
الدمشقي، عن ابن ثوبان، عن عبدة بن أبي لبابة، عن شقيق بن سلمة قال: رأيت عثمان
وعليًا يتوضآن ثلاثا ثلاثا، ويقولان: هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وابن ثوبان ضعيف. وقد روي عن أبي وائل بذكر عثمان وحده. انظر «العلل»
للدارقطني (269).
وانظر «العلل» للدارقطني (455) و«أطراف الغرائب» (452) و (453).
وكل ما تقدم إما أنه لا يخلو من مقال أو يدخله الاحتمال. وغاية ما
فيه إثبات الرؤية ولا يكفي في إثبات السماع. وثبوت الرؤية لا يلزم منه ثبوت
السماع:
قال أبو حاتم كما في المراسيل (526) لابنه: لَمْ يسمع أبو إسحاق مِن
ابن عمر، إنما رآه رؤية.
وقال أيضًا (706) : الزهريُّ لَمْ يصح سماعه مِن ابن عمر، رآه ولم
يسمع منه. ورأى عبد الله بن جعفر، ولم يسمع منه.
وقال (909) : جماعة بالبصرة قد رأوا أنس بن مالك ولَم يسمعوا مِنه،
مِنهم يحيى بن أبي كثير.
قال ابن رجب بعد أن ذَكَرَ كلامَ أبي حاتم وغيرِه في رواية يحيى بن
أبي كثير عن أنس في شرح علل الترمذي (2/590) :
ولَمْ يَجعلوا روايته عنه متصلةً بمجرد الرؤية، والرؤيةُ أَبْلَغُ
مِن إمكان اللقي.
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين.