السبت، 7 ديسمبر 2013

[فائدة في معنى قول المعطلة: «طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم» ونقض هذا القول وبيان بطلانه]

[فائدة في معنى قول المعطلة: «طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم» ونقض هذا القول وبيان بطلانه]

قال ابن تيمية رحمه الله مبيناً معنى هذه المقولة الباطلة الآثمة عند أصحابها:
«ذلك لأن طريقة أهل التأويل فيها مخاطرة بالإخبار عن مراد الله بالظن الذي يجوز أن يكون صواباً ويجوز أن يكون خطأً وذلك قول عليه بما لا يُعلم والأصل تحريم القول عليه بالظن وكان تركها أسلم.
وفي طريقة أهل التأويل حسم مواد الاعتقادات الفاسدة والشبهات الواردة فكانت أحزم وأحكم».

[من جامع المسائل لابن تيمية ٩/٩٠]

وقد بين رحمه الله بطلان هذه المقولة, حيث قال:
« ولا يجوز أيضًا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن «طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم» .
فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضّلون طريقة الخلف على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] ، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات.
فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف.
وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص للشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر ـ 
وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنًى ـ
بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى ـ 
وهي التي يسمونها طريقة السلف ـ
وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف ـ
وهي التي يسمونها طريقة الخلف ـ
فصار هذا الباطل مركبًا من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه.
فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين كانت النتيجة: استجهال السابقين الأولين، واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قومًا أميين، بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله.
ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة. 
كيف يكون هؤلاء المتأخرون ـ
لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول:
لعمري لقد طفتُ المعاهدَ كلَّها ... وسَيَّرتُ طَرْفي بين تلك المعالِمِ
فلم أرَ إلا واضعًا كفَّ حائرٍ ... على ذقَنٍ أو قارعًا سِنَّ نادمِ
وأقروا على نفوسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم؛ كقول بعض رؤسائهم:
نهاية إقدام العقول عقالُ ... وأكثر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
[لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. أقرأُ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] ، وأقرأُ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي] .
ويقول الآخر [منهم] : «لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمة [منه] فالويل لفلان، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي» .
ويقول الآخر منهم: «أكثر الناس شكًا عند الموت أصحاب الكلام» .
ثم [هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف] إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون: أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب آياته وذاته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، [فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم] ، وأحاطوا من حقائق المعارف، وبواطن الحقائق، بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة.
ثم كيف يكون خير قرون الأمة، أنقص في العلم والحكمة ـ
لا سيما العلم بالله وأحكام آياته وأسمائه من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟
أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم؛ أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟!».

[الحموية ص185-202]

وممن ذكر هذه المقولة من المعطلة:

ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية ص385.
وملا علي قاري في مرقاة المفاتيح 10/182.
والقسطلاني في شرحه على الصحيح 7/321.

[مستفاد من كتاب الاحتجاج بالآثار السلفية على إثبات الصفات الإلهية بتصرف يسير]